كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الضمير في منهم هنا عائد على بني النضير.
والفيء: الغنيمة بدون قتال، وقد جعله تعالى هنا على رسوله خاصة.
وقال: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاءُ} أي لما كان إخراج اليهود مرده إلى الله تعالى بما قذف في قلوبهم الرعب، وبما سلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يشاركه فيه عيره.
وقد جاء مصداق ذلك عن عمر رضي الله عنه الذي ساقه الشيخ تغمده الله برحمته عند آخر كلامه على مباحث الأنفال عند قوله:
المسألة التاسعة:
اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير لا من المغانم، وساق حديث أنس بن أوس المتفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في قصة مطالبة علي والعباس ميراثهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال لهما: إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا بشيء لم يعطه أحدًا غيره، فقال عز وجلك {وَمَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ} إلى قوله: {قَدِيرٌ} [الحشر: 6]، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم، لقد أعطاكموه وبثها فيكم، حتى بقي منها هذا المال، فكان النَّبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل ما لله إلخ. اهـ.
وكانت هذه خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء بعدها ما هو أعم نم ذلك في قوله تعالى: {مَّا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} [الحشر: 7]- أي عمومًا- {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7].
وهذه الآية لعمومها مصدرًا ومصرفًا، فقد اشتملت على أحكام ومباحث عديدة، وقد تقدم لفضيلة الشيخ- تغمده الله برحمته- الكلام على كل ما فيها عند أول سورة الأنفال على قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} [الأنفال: 1]، فاستو في واستقصى وفصل وبين مصادر ومصارف الفيء والغنيمة والنفل. وما فتح من البلاد صلحًا أو عنوة، ومسائل عديدة مما لا مزيد عليه، ولا غنى عنه والحمد لله تعالى.
{للفقراء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)}
في هذه الآية الكريمة وصف شامل للمهاجرين في دوافع الهجرة: أنهم {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله}، وغايتها: وهي {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَه}، والحكم لهم بأنهم {أولئك هُمُ الصادقون}.
ومنطوق هذه الأوصاف يدل بمفهومه أنه خاص بالمهاجرين، مع أنه جاءت نصوص أخرى تدل على مشاركة الأنصار لهم فيه: منها قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72]، وقوله تعالى بعدها: {والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك هُمُ المؤمنون حَقًّا} [الأنفال: 74].
فذكر المهاجرين بالجهاد بالمال والنفس، وذكر معهم الأنصار بالإيواء والنصر، ووصف الفريقين معًا بولاية بعضهم لبعض، وأثبت لهم معًا حقيقة الإيمان {أولئك هُمُ المؤمنون حَقًّا} [الأنفال: 4]، أي الصادقون في إيمانهم فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة وفي صدق الإيمان.
وفي قوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] وصف شامل للأنصار، تبوءوا الدار: أي المدينة، والإيمان من قبلهم: أي ببيعة العقبة الأولى والثانية من قبل مجيء المهاجرين، بل ومن قبل إيمان بعض المهاجرين يحبون من هاجر إليهم ويستقبلونه بصدور رحبة، ويؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، لأنهم هاجروا إليهم.
وظاهر النصوص تدل بمفهومها أن غيرهم لم يشاركهم في هذه الصفات، ولكن في الآية الأولى ما يدل لمشاركة المهاجرين الأنصار في هذا الوصف الكريم، وهو الإيثار على النفس، لأن حقيقة الإيثار على النفس هو بذل المار للغير عند حاجته مقدمًا غيره على نفسه، وهذا المعنى بالذات سبق أن كان من المهاجرين أنفسهم المنصوص عليه في قوله تعالى: {للفقراء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] فكانت لهم ديار، وكانت عندهم أموال وأخرجوا منها كلها، فلئن كان الأنصار واسوا إخوانهم المهاجرين ببعض أموالهم، وقاسموهم ممتلكاتهم، فإن المهاجرين لم ينزلوا عن بعض أموالهم فحسبن بل تركوها كلها. أموالهم ودياردهم وأولادهم وأهلهم، فصاروا فقراء بعد إخراجهم من ديارهم وأموالهم. ومن يخرج من كل ماله ودياره ويترك أهله وأولاده، لا يكون أقل تضحية من آثر غيره ببعض ماله، وهو مستقر في أهله وديارهن فكأن الله عوضهم بهذا الفيء عما فات عنهم.
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله: أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار ما يشعر بهذا المعنى، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إن إخوانكم قد تركوا الأموا والأولاد وخرجوا إليكم فقالوا يا رسول الله: أموالنا بيننا قطائع» الحديث.
أي أن الأنصار عرفوا ذلك للمهاجرين، وعليه أيضًا، فقد استوى المهاجرون مع الأنصار في هذا الوصف المثالي الكريم، وكان خلقًا لكثيرين منهم بعد الهجرة كما فعل الصديق رضي الله عنه حين تصدق بكل ماله فقال له، رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ما أبقيت لأهلك»؟ فقال رضي الله عنه: أبقيت لهم الله ورسوله. وكذلك عائشة الصديقة رضي الله عنها. حينما كانت صائمة وليس عندها سوى قرص من الشعير وجاء سائل فقالت لبريرة: ادفعي إليه ما عندك، فقالت: لها: ليس إلا ما ستفطرين عليه، فقالت لها: ادفعيه إليه، ولعلها أحوج إيله الآن، أو كما قالت.
ولما جاء المغرب أهدى إليهم رجل شاة بقرامها- وقرامها هو ما كانت العرب تفعله إذا أرادوا شواء شاة طلوها من الخارج بالعجين حفظًا لها من رماد الجمر- فقالت لبريرة: كلي، هذا خير من قرصك.
وكما فعل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق بالعير وما تحمله من تجارة حين قدمت، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فخرج الناس إليها.
فعلى هذا، كان مجتمع المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم مجتمعاص متكافلًا بعضهم أولياء بعض، وقد نوَّه صلى الله عليه وسلم في صة غنائم حنين بفضل كلا الفريقين في قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار»
ومن بعده عمر رضي الله عنه قال: وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تبوأوا الدار والإيمان، من قبل أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم.
ثم كان هذا خلق المهاجرين والأنصار جميعًا، كما وقع في وقعة اليرموك، قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به فقلت له: أسقيك؟ فأشار ربأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه آه، فأشار إلي ابن عمي أن أنطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول آه آه. فأشار هشام أن أنطلق إليه فجئته، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وكان منهج الخواص من بعدهم، كما نقل القرطبي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ، قدم علينا حاجًا فقال لي: ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إن وجدنا أكلنان، وإن فقدنا صبرنا، فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا. فقلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا وإن وجدنا آثرنا.
وفي قوله: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. الإيثار على النفس: تقديم الغير عليها مع الحاجة، والخصاصة: التي تختل بها الحال، وأصلها من الاختصاص، وهو الانفراد في الأمر.
فالخصاصة الانفراد بالحاجة أي ولو كان بهم فاقة وحاجة. ومنه قول الشاعر:
أما الربيع إذا تكون خصاصة ** عاش السقيم به وأثرى المقتر

وهل يصح الإيثار من كل إنسان ول كان ذا عيال أو تلزمه نفقة غيره أم لا؟ وما علاقته مع قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} [البقرة: 213]؟
والجواب على هذا كله في كلام الشيخ رحمه الله على قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] في أول سورة البقرة.
قال رحمه الله: قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله، ولم يبين هنا القدر الَّذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إمساكه، ولكنه بين في مواضع أخرى أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة، وسد الخلَّة التي لابد منها، وذلك كقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو}، والمراد بالعفو الزائد على قدر الحاجة التي لابد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهب الجمهور ومنه قوله تعالى: {حتى عَفَوْاْ} [الأعراف: 196] أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم.
وقال بعض العلماء: العفو نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع.
ومنه قول الشاعر:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا، وبقية الأقوال ضعيفة، وقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] فنهاه عن البخل بقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِك}، ونهاه عن الإسراف بقوله: {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط}، فيتعين الوسط بين الأمرين، كما بينه بقوله: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير وبين البخل والإقتار، فالجود غير التبذير، والاقتصاد غير البخل فالمنع في محل الإعطاء مذموم، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29]، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضًا، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29].
وقد قال الشاعر:
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت يداه ** كالمزن حتى تخجل الديما

فإنها خطرات من وساوسه ** يعطي ويمنع لا بخلًا ولا كرما

وقد بين تعالى في مواضع أخرى، أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك إلا إذا كان مصرفه الذي صرف منه مما يرضي الله كقوله تعالى: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين} [البقرة: 215] الآية، وصرح في أن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال: 36].
وقد قال الشاعر:
إن الصنيعة لا تعد صنيعة ** حتى يصاب بها طريق المصنع

فإن قيل: هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد عن الحاجة الضرورية، مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا، وذلك في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} [الحشر: 9].
فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم: هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالا، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعًا، وذلك كما إذا كانت على المنفق واجبة كنفقة الزوجات ونحوها، فتبرع بالإنفاق في غير واجب، وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم: «وابدأ بمن تعول»، وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله، ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم، فلا يجوز له ذلك؟ والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة، وكان واثقًا من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال.